**********( بسم الله الرحمن الرحيم )**********
الحمد لله مستحقِ الحمد بلا انقطاع، ومستوجبِ الشكر بأقصى ما يستطاع، الوهابُ المنان، الرحيم الرحمن، المدعو بكل لسان، المرجو للعفو والإحسان، الذي لا خير إلا منه، ولا فضل إلا من لدنه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الجميل العوائد، الجزيل الفوائد، أكرم مسئول، وأعظم مأمول، عالم الغيوب، مفرّج الكروب، مجيب دعوة المضطر المكروب.
وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وحبيبه وخليله، الوافي عهده، الصادق وعده، ذو الأخلاق الطاهرة، المؤيّد بالمعجزات الظاهرة، والبراهين الباهرة. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وتابعيه وأحزابه، صلاة تشرق إشراق البدور.
(يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران:102].
أما بعد:
- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: ((لا عَدْوَى وَلا طِيَرَةَ وَلا هَامَةَ وَلا صَفَرَ، وفُـرّ من المجذوم كما تَفرّ من الأسد))[صحيح البخاري في الطب 5707)].
- وفي رواية: ((لا عدوىولا صفر ولا هامة)) فقال أعرابي: يا رسول الله فما بال الإبل تكون في الرمل كأنها الظباء فيجيء البعيرالأجرب فيدخل فيها فيجربها كلها؟ قال: فمن أعْدَىالأول)[مسلم 2220)].
- وفي رواية: ((لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر ولا غُول))[صحيح الجامع 7531].
- وفي رواية: ((لا عدوى ولا هامة ولا نوء ولا صفر))[صحيح الجامع 7534].
فالحاصل من ذلك ستة أشياء: العَدوى، والطِّيرة، والهامَّة، والصفر، والغُول، والنَّوء.
- وفي رواية: ((لا عدوى ولا طيرة ويعجبني الفأل الصالح، والفأل الصالح: الكلمة الحسنة))[صحيح الجامع 7532].
ينفي النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الأحاديث العقائد الباطلة والخرافات التيكانت سائدة بين العرب في الجاهلية.
* لا عدوى
جَمَع العلماء بين هذا الحديث وأحاديث أمره - صلى الله عليه وسلم - بالفرار من المجذوم، ونهيه عن إيراد الممرِض على المصحّ وعن الدخول إلى موضع الطاعون من وجوه:
أن العَدوى إذا انتقَلتْ كان ذلك بِقَدَرِ الله، لا بتأثير المرض ذاتِه، ويَدل عليه ما رواه الإمام أحمد والترمذي من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قامفينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((لا يًعْدِي شيء شيئا، فقامأعرابي فقال: يا رسول الله النُّقْبَة من الْجَرَب تكون بِمِشْفَرِ البعير أو بِذَنَبِه في الإبل العظيمة فَتَجْرَبُ كلّها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فما أجْرَبَ الأول؟ لاعدوى ولا هامة ولا صفر، خلق الله كل نفس فكتب حياتها ومصيباتها ورزقها)) وهو يُوضِّح ما تقدّم منرواية الشيخين. فقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((فما أجْرَبَ الأول؟)) أي أنّأول بعير أُصيب لم يَكن نتيجةعدوى ولا أنه خالَط غيره، وإنما كان ذلك بِقَدَر ِالله، فلو لم يُقدِّر الله انتقال ذلك الْجَرَب لميَنتقِل، كما أنه لو قَدّر سلامة البعير الأول لم يُصَب.
والمشاهدَ أن البيت أحيانا يُصاب أحد أفراد بالزًّكام فيُصاب كل من في البيت، وأحياناً يُصابالرَّجُل في بيته ولا تنتقل العدوى لأقرب الناس إليه! فمن الذي جعلها تنتقل في مرّة ولا تنتقل في مرّات؟ إنه الله الذي قَدّر الأقْدَار، وليس المرض الذيانتقل أو انتشر.
قال ابن عبد البر: أما قوله: ((لاعدوى)) فمعناه أنه لا يُعْدِي شيء شيئا، ولا يُعْدِي سقيم صحيحا، والله يفعل ما يشاء، لاشيء إلا ما شاء.
قال ابن الأثير: كانوا يظنون أن المرض بنفسه يَتَعَدّى، فأعلمهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ليس الأمر كذلك، وإنما الله هو الذي يمرض ويُنَزل الداء.
وقد جاءالإسلام بِعزْل المريض الذي يكون مرضه خطيراً مُعدِياً. قال - عليه الصلاة والسلام -: لايُورِد مُمْرِضٌ علىمُصِحّ. [رواه البخاري ومسلم].
قال العلماء: الممرِض: صاحب الإبل المراض، والمصِحّ: صاحب الإبل الصحاح، فمعنى الحديث: لا يورد صاحب الإبل المراض إبله على إبل صاحب الإبل الصحاح، لأنه ربما أصابها المرض بِفِعْلِ الله تعال وقَدَرِه الذي أجرى به العادة لابِطَبْعِها فيحصل لصاحبها ضرر بمرضها، وربما حصل له ضرر أعظم من ذلك باعتقاد العدوى بِطَبْعِها فيكفر. أفاده النووي.
وقال - عليه الصلاة والسلام - في شأن الطاعون: ((إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تَخْرُجوا فِرارا منه))[رواهالبخاري ومسلم].
قال الشيخ سليمان آل الشيخ: وأما أمره بالفرار من المجذوم، ونهيه عن إيراد الممرِض على المصحّ وعن الدخول إلى موضع الطاعون؛ فإنه من باب اجتناب الأسباب التي خلقها الله - تعالى -، وجعلها أسبابا للهلاك والأذى، والعبد مأمور باتِّقاء أسباب الشر إذا كان في عافية، فكما أنه يؤمر أنلايُلْقِي نفسه في الماء أوفي النار أو تحت الهدم أو نحو ذلك كما جرت العادة بأنه يُهْلِك ويُؤذي، فكذلك اجتناب مقاربة المريض كالمجذوم وقدوم بلد الطاعون فإن هذه كلها أسباب للمرض والتلف، والله - تعالى - هو خالق الأسباب ومسبباتهالاخالق غيره، ولا مقدر غيره.
قال الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله -: العدوى موجودة، ويدل لوجودها قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يورد ممرض على مصح)) أي: لا يورد صاحب الإبل المريضة على صاحب الإبل الصحيحة؛ لئلا تنتقل العدوى.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((فر من المجذوم فرارك من الأسد)) والجذام مرض خبيث معد بسرعة ويتلف صاحبه؛ حتى قيل: إنه الطاعون؛ فالأمر بالفرارمن المجذوم لكي لا تقع العدوى منه إليك، وفيه إثبات لتأثير العدوى، لكن تأثيرها ليس أمرا حتميا، بحيث تكون علة فاعلة، وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالفرار، وأن لا يورد ممرض على مصح من باب تجنب الأسباب لا من باب تأثير الأسباب نفسها؛فالأسباب لا تؤثر بنفسها، لكن ينبغي لنا أن نتجنب الأسباب التي تكون سببا للبلاء؛لقوله - تعالى -: (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة)[البقرة/195]، ولا يمكن أن يقال: إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ينكر تأثير العدوى؛ لأن هذا أمريبطله الواقع والأحاديث الأخرى.
* وفُـرّ من المجذوم كما تَفرّ من الأسد
وأما قوله بعد ذلك: ((وفِرَّ من المجذوم فرارك من الأسد)) فقد ذكر العلماء في الجمع بينه وبين قوله: «لا عدوى» أقوالاً كثيرة، فرأى بعضهم أن الأمر بالمجانبة محمول على حسم المادة وسد الذريعة لئلا يحدث للمخالط شيئاً من ذلك، فيظن أن سببه المخالطة فيثبت العدوى التي نفاها الشارع، ويؤيد هذا ما أخرجهالترمذي عن جابر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ بيد مجذوم فوضعها في القصعة، قال: كل ثقة بالله وتوكلاً عليه. فأكلهُ - صلى الله عليه وسلم - مع المجذوم ليبين لهم أن الله هو الذي يُمرض ويشفي، ونهاهم عن الدنو منه ليبين لهم أن هذا من الأسباب التي أجرى الله العادة بأنها تفضي إلى مسبباتها.
ويحتمل أن يكون أكله - صلى الله عليه وسلم - مع المجذوم أنه كان به أمر يسير لا يعدي مثله في العادة، إذ ليس الجذماء كلهم سواء، ولا تحصل العدوى من جميعهم....وقد ثبت علمياً أن نسبة الإصابة بهذا المرض قليلة جداً، إذ أن أكثر من 90 % من الناس لديهم مناعة طبيعية ضد هذا المرض، وهو مرض يصيب الإنسان ويشمل الجلد والأعصاب والعين والخصى والعظام والجهازالتنفسي العلوي وأعضاء أخرى، ويسبب هذا المرض جرثومةٌ عصوية تنتقل من المريض إلى السليم بواسطة استنشاق الهواء أو بواسطة التَّماس الجلدي أو لدغ بعض الحشرات، و 10%من الناس الذين ليس لديهم مناعة طبيعية ضد هذا المرض ينقسمون غلى قسمين:
أ- الذين مناعتهم ضعيفة وفي هذا النوع تظهر الإصابة.
ب- الذين مناعتهم شبه معدومة.
فقلة نسبة الإصابة تبين لنا سبب أكله - صلى الله عليه وسلم - مع المجذوم [انظر الحقائق الطبية في الإسلام].
* ولا طيرة
وأما الطِّيرة: فهي مصدر تَطَيَّرَ، و أصل التطير أنهم كانوا في الجاهلية يعتمدون على الطير، فإذا خرج أحدهم لأمر فإن رأى الطير طار يمنة تيمن به واستمر، وإن رآه طار يسرة تشاءم به ورجع، وربما كان أحدهم يهيج الطير فيعتمدها؛ فجاء الشرعبالنهي عن ذلك [فتح الباري، ص 171]
وقال ابن القيم: وقد شفى النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته في الطيرة، حيث سئل عنها فقال: ((ذاك شيء يجده أحدكم فلا يصدنه))[أخرجه مسلم 537)]. وفي أثر آخر: ((إذا تطيرت فلا ترجع))أي أمض لما قصدت له ولا يصدنك عنه الطيرة.
واعلم أن التطير إنما يضر من أشفق منه وخاف، وأما من لم يبال به ولم يعبأ به شيئاً لم يضره البتة، ولاسيما إن قال عند رؤية ما يتطير به أو سماعه: ((اللهم لا طير إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك، ولا إله غيرك، اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يذهب بالسيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك)).
فالطيرة باب من الشرك وإلقاء الشيطان وتخويفه ووسوسته يكبر ويعظم شأنها على من أتبعها نفسه واشتغل بها وأكثرَ العناية بها، وتذهب وتضمحل عمنلم يلتفت إليها ولا ألقى إليها باله ولا شغل بها نفسه وفكره.
واعلم أن من كان معتنياً بها قائلاً بها كانت إليه أسرع من السيل إلى منحدره، وتفتحت له أبواب الوساوس فيما يسمعه ويراه ويعطاه ويفتح له الشيطان فيها من المناسبات البعيدة والقريبة في اللفظ والمعنى ما يفسد عليه دينه وينكد عليه عيشه.
والمتطير متعب القلب منكد الصدر كاسف البال سيِّئ الخلق يتخيل من كل ما يراه أو يسمعه أشد الناس خوفاً وأنكدهم عيشاً وأضيق الناس صدراً وأحزنهم قلباً كثير الاحتراز والمراعاة لما لا يضره ولا ينفعه، وكم قد حرم نفسه بذلك من حظ ومنعها من رزق وقطع عليها من فائدة.
ولم يحك الله التطير إلا عن أعداء الرسل كما قالوا لرسلهم: (إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم * قالوا طائركم معكم أإن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون).
وكذلك حكى الله - سبحانه - عن قوم فرعون فقال: (فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله).
والمعنى: حتى إذا أصابهم الخصب والسعة والعافية قالوا: لنا هذه، أي نحن الجديرون الحقيقيون به ونحن أهله. وإن أصابهم بلاء وضيق وقحط ونحوه قالوا: هذا بسبب موسى وأصحابه، أصبنا بشؤمهم ونُفض علينا غبارهم؛كما يقوله المتطير لمن يتطير به، فأخبر - سبحانه - أن طائرهم عنده. وأجاب - سبحانه - عن تطيرهم بموسى وقومه بأن طائرهم عند الله لا بسبب موسى. قال ابن عباس: طائرهم ما قضي عليهم وقدر لهم. وفي رواية: شؤمهم عند الله ومن قِبَله أي إنما جاءهم الشؤم من قبله بكفرهم وتكذيبهم بآياته ورسله. وهذا كقوله - تعالى -: (وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه) أي ما يطير له من الخير والشر فهو لازم له في عنقه، والعرب تقول: جرى له الطائر بكذا من الخير والشر. وهذا لا يناقض قول الرسل: طائركم معكم، أي حظكم وما نالكم من خير وشر معكم بسبب أفعالكم وكفركم ومخالفتكم الناصحين ليس هو من أجلنا ولا بسببنا بل ببغيكم وعدوانكم.
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا عدوى ولا طيرة وأحب الفأل الصالح)).
وعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الطيرة شرك))[أخرجه الترمذي 1614 وأبو داود 3910، وأحمد 1/389 وابن ماجه 3538، وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم ووافقه الذهبي والعراقي].
وفي صحيح مسلم (537) من حديث معاوية بن الحكم السلمي أنه قال: يا رسول الله ومنا أناس يتطيرون، فقال: ((ذلك شيء يجده أحدكم في نفسه فلا يصدنه)). فأخبر أن تأذيه وتشاؤمه بالتطير إنما هو في نفسه وعقيدته، لا في المتطير به، فوهمه وخوفه وإشراكه هو الذي يطيِّره ويصده، لا ما رآه وسمعه، فأوضح - صلى الله عليه وسلم - لأمته الأمر، وبين لهم فساد الطيرة؛ليعلموا أن الله - سبحانه - لم يجعل لهم عليها علامة ولا فيها دلالة ولا نصبها سبباً لما يخافونه ويحذرونه لتطمئن قلوبهم ولتسكن نفوسهم إلى وحدانيته - تعالى -، فقطع - صلى الله عليه وسلم - علق الشرك من قلوبهم لئلا يبقى فيها علقة منها ولا يتلبسوا بعمل من أعمال أهله البتة.
وكانت عائشة تنفي الطيرة ولا تعتقد منها شيئاً حتى قالت لنسوة كن يكرهن البناء بأزواجهن في شوال: ما تزوجني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا في شوال، وما دخل بي إلا في شوال، فمن كان أحظى مني عنده. وكانت تستحب أن يدخلن على أزواجهن في شوال [أخرجه مسلم 1423)].
وقال عكرمة: كنا جلوساً عند ابن عباس، فمر طائر يصيح فقال رجل من القوم: خير خير. فقال له ابن عباس: لا خير ولا شر. مبادرة بالإنكار عليه لئلا يعتقد له تأثير في الخير أو الشر.
وأهل السنة في هذا الباب وسط بين النفاة الذين ينفون الأسباب جملة ويمنعون ارتباطها بالمسببات وتأثيرها بها، ويسدون هذا الباب بالكلية ويضطربون فيما ورد من ذلك، فيقابلون بالتكذيب منه ما يمكنهم تكذيبهم، ويحيلون على الاتفاق والمصادفة ما لا قبل لهم بدفعه من غير أن يكون لشيء من هذه الأمور مدخل في التأثير أو تعلق بالسببية البتة، وربما يقولون إن أكثر ذلك مجرد خيالات وأوهام في النفوس تنفعل عنها النفوس كانفعال أرباب الخيالات والأمراض والأوهام، وليس عندهم وراء ذلك شيء، وهذا مسلك نفاة الأسباب وارتباط المسببات بها، وهذا جواب كثير من المتكلمين.
المسلك الثاني: مسلك المثبتين لهذه الأمور المعتقدين لها، وهي عندهم أقوى من الأسباب الحسية أو في درجتها ولا يتلفتون إلى قدح قادح فيها، والقدح فيها عندهم من جنس القدح في الحسيات والضروريات.
وأما قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا طيرة، وخيرها الفأل)). قالوا: وما الفأل يا رسول الله؟ قال: ((الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم)). فابتدأهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بإزالة الشبهة وإبطال الطيرة لئلا يتوهموها عليه في إعجابه بالفأل الصالح، وليس في الإعجاب بالفأل ومحبته شيء من الشرك، بل ذلك إبانة عن مقتضى الطبيعة وموجب الفطرة الإنسانية التي تميل إلى ما يلائمها ويوافقها مما ينفعها؛كما أخبرهم إنه حبب إليه من الدنيا النساء والطيب، فهو يحب كل كمال وخير وما يفضي إليهما، والله - سبحانه - قد جعل في غرائز الناس الإعجاب بسماع الاسم الحسن ومحبته وميل نفوسهم إليه. وكذلك جعل فيها الارتياح والاستبشار باسم السلام والنجاح والتهنئة والبشرى والربح وأمثالها، فإذا قرعت هذه الأسماء الأسماع استبشرت بها النفس وانشرح لها الصدر وقوي بها القلب، وإذا سمعت أضدادها أوجب لها ضد هذه الحال فأحزنها ذلك وأثار لها خوفاً وطيرة وانكماشاً وانقباضاً عما قصدت له وعزمت عليه، فأورث ذلك ضرراً في الدنيا ونقصاً في الإيمان ومقارفة للشرك.
وأخبر - صلى الله عليه وسلم - أن الفأل من الطيرة وهو خيرها فقال: «لا طيرة وخيرها الفأل». فأبطل الطيرة، وأخبر أن الفأل منها ولكنه خيرها، ففصل بين الفأل والطيرة؛لما بينهما من الامتياز والتضاد ونفع أحدهما ومضرة الآخر.
ونحن نوضح فرقان ما بينهما فنقول: الفأل والطيرة وإن كان مأخذهما سواء ومجتناهما واحداً فإنهما يختلفان بالمقاصد ويفترقان بالمذاهب، فما كان محبوباً مستحسناً تفاءلوا به وسموه الفأل وأحبوه ورضوه، وما كان مكروهاً قبيحاً منفراً تشاءموا به وكرهوه وتطيروا منه وسموه طيرة تفرقة بين الأمرين.
وسئل بعض الحكماء فقيل له ما بالكم تكرهون الطيرة وتحبون الفأل؟ فقال لنا: في الفأل عاجل البشرى وإن قصر عن الأمل، ونكره الطيرة لما يلزم قلوبنا من الوجل. وهذا الفرقان حسن جداً، وقد كانت العرب تقلب الأسماء تطيراً وتفاؤلاً؛فيسمون اللديغ سليماً باسم السلامة وتطيراً من اسم السقم، ويسمون العطشان ناهلاً أي سينهل والنهل الشرب تفاؤلاً باسم الري، ويسمون الفلاة مفازة أي منجاة؛تفاؤلاً بالفوز والتجارة، ولم يسموها مهلكة لأجل الطيرة.
والنفس لا بد أن تتطير ولكن المؤمن القوي الإيمان يدفع موجب تطيره بالتوكل على الله، فإن من توكل على الله وحده كفاه من غيره، قال - تعالى -: (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم * إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون * إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون). ولهذا قال ابن مسعود: وما منا إلا -يعني من يقارب التطير- ولكن الله يذهبه بالتوكل. " أ. هـ مختصرا من مفتاح دار السعادة (3/270-338).
* ولا هامة
قيل هي بتشديد الميم، والكثيرون على تخفيفها، ومن شدَّد ذهب إلى واحدة من الهوام وهي ذوات السموم، وقيل هي دواب الأرض التي تهم بأذى الناس، وهذا لا يصح نفيه إلا إن أريد أنها لا تضر لذواتها وإنما تضر إذا أراد الله إيقاع الضرر بمن أصابته.
وقد ذكر الزبير بن بكار في (الموفقيات) أن العرب كانت في الجاهلية تقول: إذا قتل الرجل ولم يؤخذ بثأره خرجت من رأسه هامة و هي دودة فتدور حول قبره فتقول: اسقوني.. اسقوني، فإن أدرك بثأره ذهبت وإلا بقيت
قال: وكانت اليهود تزعم أنه تدور حول قبره سبعة أيام ثم تذهب. وذكر ابن فارس وغيره من اللغويين نحو الأول، إلا أنهم لم يعينوا كونها دودة، بل قال القزاز: الهامة طائر من طير الليل كأنه يعني البومة. وقال ابن الأعرابي: كانوا يتشاءمون بها، إذا وقعت على بيت أحدهم يقول: نعت إلي نفسي أو أحداً من أهل داري. وقال أبو عبيد: كانوا يزعمون أن عظام الميت تصير هامة فتطير، ويسمون ذلك الطائر: الصدأ [انظر فتح الباري 10 / 159 241].
* ولا صفر
وأما قوله " لا صَفَر " بفتحتين، فقد نقل أبو عببيدة معمر بن المثنى في (غريب الحديث) عن رؤبة بن العجاج قال: هي حية تكون في البطن تصيب الماشية والناس، وهي أعدى من الجرب عند العرب، فعلى هذا: المراد بنفي الصَّفَر ما كانوا يعتقدون فيه من العدوى، ورجح البخاري هذا القول لكونه قرن الحديث بالعدوى. وقيل: المراد بالصفر الحية، لكن المراد بالنفي نفي ما كانوا يعتقدون أن من أصابه قتله؛فرد ذلك الشارع بأن الموت لا يكون إلا إذا فرغ الأجل.
وقيل: المراد به شهر صفر، وذلك أن العرب كانت تحرم صفر وتستحل المحرم، فجاء الإسلام برد ما كانوا يفعلونهمن ذلك.
شهر صفر شهر شؤم عند العرب في الجاهلية، والتشاؤم به هو من جنس الطيرة المنهي عنها، ولذا نفى - صلى الله عليه وسلم - أن يكون شهر صفر شهر شؤم، والنفي في هذا أبلغ من النهي. يقول ابن رجب - رحمه الله -: وأما تخصيص الشؤم بزمان دون زمان، كشهر صفر أو غيره، فغير صحيح، وإنما الزمان كله خلق الله - تعالى -، وفيه تقع أفعال بني آدم. فكل زمان شغله المؤمن بطاعة الله، فهو زمان مبارك عليه، وكل زمان شغله العبد بمعصية الله - تعالى - فهو مشؤوم عليه. فالشؤم في الحقيقة هو معصية الله - تعالى -أ. هـ [لطائف المعارف ص131)].
* ولا نوء
و أما النَّوء: فقد كانوا يقولون: مُطرنا بنوء كذا فأبطل - صلى الله عليه وسلم - ذلك وبيَّن بأن المطر إنما يقع بإذن الله لا بفعل الكواكب، وإن كانت العادة جرت بوقوع المطر في ذلك الوقت لكن بإرادة الله - تعالى - و تقديره، لا صنع للكواكب.
* ولا غَول
فقد كانت العرب تزعم أن الغيلان في الفلوات، وهي جنس من الشياطين تتراءى للناس و تتغوَّل لهم تَغَوُّلاً أي تتلون تلوناً فتضلهم عن الطريق فتهلكهم. وقد كثرفي كلامهم: غالته الغُول، أي أهلكته أو أضلَّته.. فأبطل - صلى الله عليه وسلم – ذلك. المصدر // http://www.islamselect.net